انجلت غبار معركتين في جبهتين متواصلتين رغم كل ما قيل ويقال عن فك الترابط والتكامل بين جبهات المحور كاملة . جبهة لبنان التي شهدت حرباً لم يشابهها حروب سابقة لجهة قساوتها وكثير تدميرها وضحاياها، وجبهة غزة التي شابهت لبنان في كل شيء، من نزف في الأرواح ودمارٍ كبير والكثير من كل شيء أسود صبغت به إسرائيل ومعها كثير من الغرب وأميركا، سوداوية مشهديته، لتنتهي جبهة لبنان بعد ما يزيد عن الشهرين بقليل، وجبهة غزة بعد ما ينقص عن ال ٥٠٠ يوم بقليل، تاركة، في الجبهتين دروساً، عَبَراتٍ وعِبَر، أكثر ما عرف هذه العِبَر وفهمها جيداً كانت أميركا ثم اسرائيل .
ما إن هدأت نيران جبهة لبنان، لتعود جبهة غزة بعد أقل من شهرين، تتجه نحو الهدوء، إلا بدأنا نسمع كثيراً من تحليلات سياسية، وأخرى عسكرية، تتكلم عن معادلات جديدة خلّفتها تلك الحروب وعن إنكسار في محور صنعته اسرائيل، مستذكرة خطاب نتنياهو الشهير في الأمم المتحدة، بل خطاباته المتعددة التي تحدثت عن ولادة شرق أوسط جديد وتغيير خرائط، كما أحبوا وسعوا دائماً، من لبنان الى فلسطين، مروراً بسوريا واليمن، دون الغفلة عن ايران والعراق .
القارىء، لصفحات الأحداث ومجرياتها، بتمعن وحيادية وربطٍ لكل ما جرى ويجري، يستسخف قول البعض منهم، بل يستحقره وأكثر، أنْ هل وصلت بكم ثقافة دراسة الأحداث ومجريات الأمور الى هكذا اجتهادات ؟! .
حقاً لا بد من الشفقة على بعض صغار العقول، واستهزاءٍ بما وصلت اليه تحليلاتهم السطحية .
قد يسأل البعض، بسوء أو بحسن نية، أن كيف هذا التفاؤل بعد هول ما رأيناه من تدمير وقتل وتهجير وغيره، وهي مؤشرات واضحة على انتصار بيّن لإسرائيل في وجه الجبهات السبع التي تحدث عنها نتنياهو مع مشاهد الدمار والخراب التي شهدها لبنان وغزة ومجريات الأمور التي حصلت وتبدل بعض أنظمة كانت تُعتبر من صُلب ركائز محور المقاومة، سوريا مثلاً، الى مكان آخر، ونقل التوجه والتواصل، بل التبعية، ربما نحو المحور الآخر . ألا تدل هذه المؤشرات على هزيمة ساحقة لهذا المحور في وجه انتصار كبير للمحور الآخر، إسرائيل تحديداً ؟
حقيقة، الأمور لا تحتاج لكثير شرح، ولا تحتاج لخبرات عسكرية وقيادات أركانية، تشرح مبينة الرابح من الخاسر، جل ما تحتاجه، لبعض بصر بل بصيرة، تودي بنا نحو النتيجة الواضحة .
كيف ذلك ؟!
في علوم العسكر والانتصارات والهزائم، لا تُقاس النتائج، بحجم التدمير وعداد الضحايا، لتذهب بنتيجة الربح الى من دمر وأمعن قتلاً بأعداد كبيرة، بل تكون المعادلة أبسط من ذلك بكثير .
المعادلة في حساب الربح والخسران، تنشأ من تحقيق لأهداف وضعت ورُسمت، من عدمها، وهنا يبرز النقاش ويطول الحديث، وتظهر الخاتمة المرجوة، معلنة المنتصر من المهزوم .
بحسابات بسيطة وسطحية ودونما جهد في الغوص بخفايا الأمور وبواطنها . فقط الإكتفاء بالظاهر وبعض الباطن الذي ظهر، يرسم بوضوح صورة كل ما جرى، مستدلاً على ترتيبات من فاز ومن خسر .
بداية ومنذ ما يقارب السنة ونيف، حينما جاء الطوفان بعملية نوعية خلّفت أعداداً لم يسبق لإسرائيل فقدانها في نفس الوقت من قتلى وجرحى وأسرى، ثم الإعلان أن لا عودة لهؤلاء الأسرى، إلا بتبادل عبر تفاوض غير مباشر . لتكر بعدها سبحة الأحداث من توحش صهيوني وإسناد غربي وبعض عربي بكل ما أمكن أن يساند به كيلا تذهب هالة إسرائيل نتيجة ما لحق بها في أحداث السابع من تشرين الماضي، في مقابل تكاتف صريح وواضح، قولاً وفعلاً لمحور المقاومة، بغية إسناد غزة وتثبيت أحقيتها بإستعادة أسراها ومعتقليها .
وباتت الجبهات مشتعلة براً وبحراً وجواً، وحصيلة كانت كبيرة، وفاتورة لم تكن سهلة، قدمتها جبهات المقاومة، من شهداء وجرحى وتدمير كبير، ناهيك عن خيرة قادة قدمتهم قرباناً لمشروع مرسوم سابقاٍ في قلوب وعقول أولئك القادة وذلك المحور، يصل بهم، من خلال رؤيتهم وعقيدتهم، نحو الخالق مباشرة، لتكون أفعالهم، نتاج اتصال طريق الأرض بالسماء، وكان لبعضهم ما أراد في لبنان وفلسطين وحتى في ايران، وعداد القادة الشهداء كبير والأسماء كثيرة، لن ندخل في إحصائها بل نكتفي بالدلالة أن تلك الدماء كانت في مرحلة معينة، وقوداً لذلك الطريق وخارطة لذلك المسار وتلك الرؤيا .
الأحداث التي حصلت كثيرة وما تلاها من أبعاد ونتائج أكثر، نكتفي ببعض الحديث لنصل الى تحديد الرابح من الخاسر .
كل ما حدث رغم هوله، ورغم صعوبة قبول عاطفي أو فكري به، من استشهاد قادة، أو تبدل خرائط دول أو غيره، لم يغير الخارطة المرسومة، بل وجهها بطريقة أمثل، مظهرة أن الخير فيما وقع في غير ناحية وأكثر من طريق، فهؤلاء القادة الذين استشهدوا، لم يكن لخبر فقدانهم ذلك الأثر لو أنهم ماتوا على فراش المرض أو في حادث سير، بل هي كرامة لهم ووسام شرف أن تُختم حياتهم بالشهادة، أصلاً من غير المنطق وغير المقبول كان لهم أن لا يستشهدوا ولا ينالون هذا الشرف مع نتاج بوقود شرارتهم حيثما دعت الحاجة لهكذا وقود، في مقابل عدم تقاعس أو تغير أو انهزامية لدى من خلفهم في القيادة، على العكس، كانوا خير خلف لخير سلف، والوقائع والنتائج خير دليل على ذلك من تماسك وترابط وقوة واقتدار في شتى مجالات القيادة .
فيما خص تبدل بعض الانظمة، واعتبارها باتت بحكم المطبع أو المحايد أقله، وإخراجها من صورة المحور، أقولها مطمئناً، عِبْرةُ ما جرى ويجري في سوريا بخواتيم الأحداث، ومن يعتبر أن سوريا خرجت من دائرة الصراع، عليه أن يقرأ الأحداث جيداً ويسأل نفسه، هل انقطعت خطوط امداد المقاومة التي كانت من سوريا ؟ . للإجابة على هذا السؤال ليسأل إسرائيل نفسها هذا السؤال، وليسألها عن سبب بعض الضربات التي حصلت في سوريا أو حتى لبنان، البقاع تحديداً، وهل هي ضربات وجهت لبعض ما كان يصل إلى لبنان، المقاومة تحديداً عبر سوريا ؟ وهل توقفت خطوط الإمداد أم لا تزال مستمرة وبصعوبة أكبر من اكتشافها من خلال إسرائيل وعملائها ؟
من خلال هذه الاجابات، نعرف أين سوريا اليوم من كل ما يجري وهل خرجت من محور المقاومة أم لا تزال ؟ ولن أتحدث أكثر في هذا المجال .
خاتمة الحسابات في معادلة جوهرية وخيار وحيد، انطلق منذ الطوفان في غزة ولبنان، ما تبدل يوماً رغم فقدان الكثير من قادة الجبهتين، أنْ لا عودة الى الوراء إلا وفق طريق وحيد معروف هو تبادل للأسرى والمعتقلين، وهنا أسأل، هل عاد الأسرى سوى من خلال هذا الطريق ؟
هنا تبرز حسابات الربح والخسارة، ويبدو من المنتصر ومن المهزوم .
النتيجة الحاسمة النهائية التي رآها الجميع كانت أنه لم يحصل أي شيء ولن يحصل سوى ما خطه ورسمه أولئك القادة ولن يحصل غيره، رغم القتل ورغم التدمير .
من هنا نعرف من انتصر ومن انهزم. نعرف من ثبت ومن اضطر الى الرضوخ. نعرف أن حسابات الربح والخسارة كانت بالثبات رغم كل شيء، لنؤكد مقولة سيد سادة من رحلوا، من صدق دوماً أنه" ولى زمن الهزائم وبدأ زمن الانتصارات" .